فصل: ثم دخلت سنة تسع وخمسين وستمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء **


  ذكر استيلاء التتر على قلعة حلب والمتجددات بالشام

أما قلعة حلب فوثب جماعة من أهلها في مدة الحصار على صفي الدين بن طرزة رئيس حلب وعلى نجم الدين أحمد بن عبد العزيز بن أحمد ابن القاضي نجم الدين بن أبي عصرون فقتلوهما لأنهم اتهموهما بمواطأة التتر واستمر الحصار على القلعة واشتدت مضايقة التتر لها نحـو شهـر ثـم سلمـت بالأمـان فـي يوم الاثنين الحادي عشر من ربيع الأول من هذه السنة ولما نزل أهلها بالأمان وكان فيها جماعة من البحرية الذين حبسهم الملك الناصر فمنهم سكز وبرامق وسنقر الأشقر فسلمهم هولاكوهم وباقي الترك إلى رجل من التتر يقال له سلطان حق وهو رجل من أكابر القبجاق هرب من التتر لما غلبت على القبجاق وقدم إلى حلب فأحسن إليه الملك الناصر فلم تطب له تلك البلاد فعاد إلى التتر وأما العوام والغرباء فنزلـوا إلـى أماكـن الحمى التي قدمنا ذكرها وأمر هولاكو أن يمضي كل من سلم إلى داره وملكه وأن لا يعارض وجعل النائـب بحلـب عمـاد الديـن القزوينـي ووصـل إلـى هولاكـو علـى حلـب الملـك الأشـرف صاحب حمص موسى بن إبراهيم بن شيركوه وكان قد انفرد الأشرف المذكور عن المسلمين لما توجه الملك الناصر إلى جهة مصر ووصل إلى هولاكو بحلب فأكرمه هولاكو وأعاد عليه حمص وكان قد أخذها منه الملك الناصر صاحب حلب في سنة ست وأربعين وستمائة وعوضـه عنها تل باشر على ما تقدم ذكره فعادت إليه في هذه السنة واستقر ملكه بها وقدم أيضـاً إلـى هولاكـو وهو نازل إلى حلب محي الدين ابن الزكي من دمشق فأقبل عليه هولاكو خلع عليه وولاه قضاء الشام ولما عاد ابن الزكي المذكور إلى دمشق لبس خلعة هولاكـو وكانـت مذهبة وجمع الفقهاء وغيرهم من أكابر دمشق وقرأ عليهم تقليد هولاكو واستقر في القضاء ثم رحل هولاكو إلى حارم وطلب تسليمها فامتنعوا أن يسلموها لغير فخر الدين والي قلعة حلب فأحضره هولاكو وسلموها إليه فغضب هولاكو من ذلك وأمر بهم فقتل أهل حارم عن آخرهم وسبي النساء ثم حل هولاكو بعد ذلك وعاد إلى الشرق وأمر عماد الدين القزويني بالرحيل إلى بغداد فسار إليها وجعل مكانه بحلب رجلاً أعجمياً وأمر هولاكو بخراب أسورار قلعة حلب وأسوار المدينة فخربت عـن آخرهـا وأعطـى هولاكـو الأشـرف موسـى صاحـب حمص الدستور ففارقه ووصل إلى حماة ونزل في الدار المبارز وأخذ في خراب سور قلعة حماة بتقدم هولاكو إليه بذلك فخربت أسوارهـا وأحرقـت زردخانتهـا وبيعـت الكتـب التـي كانـت بـدار السلطنـة بقلعـة حماة بأبخس الأثمان وأما أسوار مدينة حماة فلم تخرب لأنه كان بحماة رجل يقال له إبراهيم بن الإفرنجية ضامن الجهة المفردة بذل لخسروشاه جملة كثيرة من المـال وقال‏.‏

الفرنج قريب منا بحصن الأكراد ومتى خربت أسوار المدينة لا يقدر أهلها على المقام فيها فأخذ منه المال ولم يتعرض الخراب أسوار المدينة وكان قد أمر هولاكو والأشرف موسى صاحب حمص بخراب قلعة حمص أيضاً فلـم يخـرب منهـا إلا شيئـاً قليـلاً لأنهـا مدينتـه وأمـا دمشـق فإنهـم لما ملكوا المدينة بالأمان لم يتعرضوا إلى قتل ولا نهب وعصت قلعة دمشق عليهم فحاصرها التتر وجرى على أهل دمشق بسبب عصيان القلعة شدة عظيمة وضايقوا القلعة وأقامـوا عليهـا المجانيـق ثـم تسلموهـا بالأمـان فـي منتصـف جمـادى الأولى من هذه السنة ونهبوا جميع ما فيها وجدوا في خراب أسوار القلعة وإعدام ما بها من الزردخانات والآلات ثم توجهوا إلى ذكر استيلاء التتر على ميافارقين وقتل الملك الكامل صاحبها‏:‏ وفـي هـذه السنـة أعنـي سنـة ثمـان وخمسيـن وستمائـة استولـى التتر على ميافارقين وقد تقدم ذكر نزولهم عليها ومحاصرتها في سنة ست وخمسين واستمر الحصار عليهم مدة سنتين حتى فنيت أزوادهم وفني أهلها بالوباء وبالقتـل وصاحبهـا الملـك الكامـل محمـد ابـن الملـك المظفـر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب مصابراً ثابتاً وضعف من عنده عن القتال فاستولى التتر عليهما وقتلوا صاحبها الملك الكامل المذكور وحملوا رأسـه علـى رمـح وطيـف بـه فـي البلـاد ومـروا بـه علـى حلـب وحمـاة ووصلـوا بـه إلـى دمشـق في سابع عشرين جمادى الأولـى مـن هـذه السنـة أعنـي سنـة ثمـان وخمسين وستمائة وطافوا به في دمشق بالمغاني والطبول وعلق رأس المذكور في شبكة بسور باب الفراديس إلى أن عادت دمشق إلى المسلمين فدفن بمشهد الحسين داخل باب الفردايس وفيه يقول الشيخ شهاب الدين ابن أبي شامة أبياتاً منها‏:‏ ابن غازي غزى وجاهد قوماً أثخنـوا فـي العـراق والمشرفيـن طاهراً عالياً ومات شهيداً بعـد صبـر عليهـم عاميـن ثم واروا في مشهد الرأس ذاك الرأس واستعجبوا من الحالين‏.‏

ذكر اتصال الملك الناصر بالتتر واستيلائهم على عجلون وغيرها من قلاع الشام‏:‏ أما الملك الناصر يوسف فإنه لما انفرد عن العسكر من قطية وسار إلى تيه بني إسرائيل بقي متحيراً إلى أين يتوجه وعزم على التوجه إلى الحجاز وكان له طبر دار كردي اسمه حسين فحسـن لـه المضـي إلـى التتـر وقصـد هولاكـو فاغتـر بقولـه ونـزل ببركـة زيرا وسار حسين الكردي إلى كتبغا نائب هولاكو وعرفه بموضع الملك الناصر فأرسل كتبغا إليه وقبض عليه وأحضره إلى عجلون وكانت بعد عاصية فأمره الملك الناصر بتسليمها فسلمت إليهم فهدموها‏.‏

وكنا قد ذكرنا حصار التتر لبعلبك فتسلموها قبيل تسليم عجلون وخربوا قلعتها أيضاً وكان بالصبية صاحبها الملك السعيد ابن الملك العزيـز ابـن الملـك العـادل فسلـم الصبيـة إليهـم وصـار الملـك السعيـد المذكـور معهـم وأعلـن بالفسـق والفجـور وسفـك دماء المسلمين وأما الملك الناصر يوسف فإن كتبغا بعث به إلى هولاكو فوصل إلى دمشق ثم إلى حماة وبها الأشرف صاحب حمص فخرج إلى لقائه هو وخسروشاه النائب بحماة ثم سار إلى حلب فلمـا عاينهـا الملـك يعز علينا أن نرى ربعكم يبلى وكانت به آيات حسنكم تتلى ثم سار إلى الأردن فأقبل عليه هولاكو ووعده برده إلى مملكته وكان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر غير ذلك وفي خامس عشر شعبان من هذه السنة أخرج التتر من الاعتقال نقيب قلعة دمشق وواليها وضربوا أعناقهما بداريا واشتهر عند أهل دمشق خروج العساكر من مصر لقتال التتر فأوقعوا بالنصارى وكانوا قد استطالوا على المسلمين بدق النواقيس وإدخال الخمر إلى الجامع فنهبهم المسلمون في سابع عشرين رمضان من هذه السنة وأخربوا كنيسة مريم وكانت كنيسة عظيمة وكانـت كنيسـة مريـم فـي جانـب دمشـق الـذي فتحه خالد بن الوليد بالسيف فبقيت بيد المسلمين وكان ملاصق الجامع كنيسة وهي من الجانب الذي فتحه أبو عبيدة بالأمان فبقيت بأيـدي النصارى فلما ولي الوليد بن عبد الملك الخلافة خرب الكنيسة الملاصقة للجامع وأضافها إليه ولـم يعـوض النصـارى عنهـا فلمـا ولـي عمـر بـن عبـد العزيـز عوضهم بكنيسة مريم عن تلك الكنيسة فعمروها عمارة عظيمة وبقيت كذلك حتى خربها المسلمون في التاريخ المذكور‏.‏

وفي هذه السنة أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة كانت هزيمة التتر في يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان على عين جالوت وكان من حديثها أنه لما اجتمعت العساكر الإسلامية بمصر عزم الملك المظفر قطز مملوك المعز أيبك على الخروج إلى الشام لقتال التتر وسار من مصر بالعساكر الإسلامية وصحبته الملك المنصور محمد صاحب حماة وأخوه الملك الأفضـل علـي وكـان مسيره من الديار المصرية في أوائل رمضان من هذه السنة ولما بلغ كتبغا وهو نائب هولاكو على الشام ومقدم التتر مسير العساكر الإسلامية إليه صحبة الملك المظفر قطز جمع مـن فـي الشام من التتر وسار إلى لقاء المسلمين وكان الملك السعيد صاحب الصبيبة ابن الملك العزيز ابن الملك العادل بن أيوب صحبة كتبغا وتقارب الجمعان في الغرر والتقوا يوم الجمعة المذكور فانهزمت التتر هزيمة قبيحة وأخذتهم سيوف المسلمين وقتل مقدمهم كتبغا واستؤسر ابنه وتعلق من سلم من التتر برؤوس الجبال وتبعتهم المسلمون فأفنوهم وهرب من سلم منهم إلـى الشـرق وجرد قطز ركن الدين بيبرس البندقداري في إثرهم فتبعتهم المسلمون إلى أطراف البلاد الشرقية وكان أيضاً في صحبة التتر الملك الأشرف موسـى صاحـب حمـص فنازلهـم وطلب الأمان من المظفـر قطـز فأمنـه ووصـل إليـه فأكرمـه وأقـره علـى مـا بيـده وهـو حمـص ومضافاتها وأما الملك السعيد صاحب الصبيبة فإنه أمسك أسيـراً وأحضـر بيـن يـدي الملـك ولما انقضى أمر المصاف أحسن المظفر قطز إلى الملك المنصور صاحب حماة وأقره على حماة وباريـن وأعـاد إليـه المعـرة وكانـت فـي أيـدي الحلبييـن مـن حيـن استولـوا عليهـا في سنة خمس وثلاثين وستمائة وأخذ سلمية معه وأعطاها أمير العرب وأتم الملك المظفر السير بالعساكر وصحبته الملك المنصور صاحب حماة حتى دخل دمشق وتضاعف شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر لاستيلائهم على معظم بلاد الإسلام ولأنهم مـا قصـدوا إقليمـاً إلا فتحـوه ولا عسكـراً إلا هزمـره فابتهجـت الرعايـا بالنصـرة عليهـم وبقـدوم الملـك المظفـر قطـز إلـى الشـام وفـي يـوم دخولـه دمشـق أمر بشنق جماعة من المنتسبين إلى التتر فشنقوا وكان من جملتهم حسين الكردي طيردار الملك الناصر يوسف وهو الذكي أوقع الملك الناصر في أيدي التتر وفي هذه النصرة وقدوم قطز إلى الشام يقول بعض الشعراء‏:‏

هلك الكفـر فـي الشـآم ** جميعـاً واستجد الإسلام بعدد حوضه

بالمليك المظفر الملك الأر ** وع سيف الإسلام عند نهوضه

ملـك جاءنـا بعـزم وحزم ** فاعتززنـا بسمره وببيضه

أوجـب اللـه شكـر ذاك علينا ** دائمـا مثل واجبات فروضه

ثـم أعطـى الملـك المظفـر قطـز صاحـب حمـاة الملـك المنصـور الدستـور فقـدم الملـك المنصـور قدامه مملوكه ونائبه مبارز الدين أقوش المنصور إلى حماة ثم سار الملك المنصور وأخوه الملك الأفضل ووصلا إلى حماة ولما استقر الملك المنصور بحماة قبض على جماعة كانوا مع التتر واعتقلهم وهنأ الشيخ شرف الدين شيخ الشيوخ المنصور بهذا النصـر العظيـم وبعـود المعـرة بقصيدة منها‏:‏

رعت العدى فضمنت ثل عروشها ** ولقيتها فأخـذت تـل جيوشهـا

نازلـت أملـاك التتار فأنزلت ** عن فحلها قسراً وعن أكديشها

فغدا لسيفك في رقاب كماتها ** حصد المناجل في يبيس حشيشها

فقت الملوك ببذل مـا تحويـه إذ ** ختمت خزائنها على منقوشها

ومنها‏:‏

وطويت عن مصر فسيح مراحل ** مـا بيـن بركتهـا وبين عريشها

حتى حفظت على العباد بلادها ** من رومها الأقصى إلى إحبوشها

فرشت حماة لوطيء نعلك خدها ** فوطئت عين الشمس من مفروشها

وضربت سكتها التي أخلصتها ** عما يشوب النقد من مغشوشها

وكذا المعرة إذا ملكت قيادها ** دهشت سروراً سار في مدهوشها

لا زلت تنعش بالنـوال فقيرهـا ** وتنال أقصى الأجر من منعوشها

وكان خسروشاه قد سافر من حماة إلى جهة الشرق لما بلغه كسرة التتر ثم جهز الملك المظفر قطز عسكراً إلى حلب لحفظها ورتب أيضاً شمس الدين أقوش البرلي العزيزي أميراً بالسواحل وغـزة ورتـب معـه جماعـة مـن العزيزيـة وكـان البرلـي المذكـور من مماليك الملك العزيز محمد صاحـب حلـب وسـار في جملة العزيزية مع ولده الملك الناصر يوسف إلى قتال المصريين وخامر البرلـي وجماعـة من العزيزية على ابن أستاذهم الملك الناصر وصاروا مع أيبك التركماني صاحب مصر ثم إنهم قصدوا اغتيال المعز أيبـك التركمانـي المذكـور وعلـم بهـم فقبـض علـى بعضهـم وهرب بعضهم وكان البرلي المذكور من جملة من سلم وهرب إلى الشام فلما وصل إلى الملك الناصر اعتقله بقلعة عجلون فلما توجه الملك الناصر بالعسكر إلى الغور مندفعاً من بين يدي التتر أخرج البرلي من حبس عجلون وطيب خاطره فلما هرب الملك الناصر من قطية دخل شمس الدين أقوش البرلي المذكور مع العساكر إلى مصر فأحسن إليه الملك المظفر قطز وولاه الآن السواحل وغزة فلما استقر بدمشق على ما ذكرناه وكان مقر البرلي لما تولى هذه الأعمال بنابلس تارة وبيت جبرين أخرى ثم إن الملك المظفر قطز فرض نيابة السلطنة بدمشـق إلـى الأميـر علـم الديـن سنجر الحلبي وهو الذي كان أتابكاً لعلي بن المعز أيبك وفوض نيابة السلطنة بحلـب إلى الملك السعيد بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وكان المذكور قد وصل إلى الملك الناصر يوسف صاحب الشام ودخل مع العساكر إلى مصر وصار مع المظفر قطز ففوض إليه نيابة السلطنة بحلب وكان سببه أن أخاه الملك الصالح بن لؤلؤ قد صار صاحب الموصل بعد أبيه فولاه حلب ليكاتبه أخوه بأخبار التتر ولما استقر السعيد المذكور في نيابة حلب سار سيرة رديئة وكان دأبه التحيل على أخذ مال الرعية‏.‏

ذكر عود الملك المظفر قطز إلى جهة الديار المصرية مقتله‏:‏ ولما قرر الملك المظفر قطز المعزي المذكور أمر الشام على ما شرحناه سار من دمشق إلى جهـة البلاد المصرية وكان قد اتفق بيبرس البندقداري الصالحي مع أنص مملوك نجم الدين الرومي الصالحي والهاروني وعلم الديـن صغـن أغلـي علـى قتـل المظفـر قطـز وسـاروا معـه يتوقعـون الفرصة فلما وصل قطز إلى القصير بطرف الرمل وبينـه وبيـن الصالحيـة مرحلـة وقـد سبـق الدهليز والعسكر إلى الصالحية فبينما قطز يسير إذ قامت أرنب بين يديه فساق عليها وساق هؤلاء المذكورون معه فلما بعدوا تقدم إليه أنص وشفع عند الملك المظفر قطز فـي إنسـان فأجابه إلى ذلك فأهوى لتقبيل يده وقبض عليها فحمل عليه بيبـرس البندقـداري الصالحـي حينئذ وضربه بالسيف واجتمعوا عليه ورموه عن فرسه ثم قتلوه بالنشاب وذلك في سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة فكانت مدة ملكه أحد عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً وساق بيبرس وأولئك المذكورون بعد مقتله حتى وصلوا إلى الدهليز بالصالحية‏.‏

  ذكر سلطنة بيبرس البندقداري المذكور

ولمـا وصـل ركـن الديـن بيبـرس المذكـور هـو والجماعة الذين قتلوا الملك المظفر قطز إلي الدهليز كما ذكرناه وكان عند الدهليز نائـب السلطنـة فـارس الديـن أقطـاي المستعـرب وهـو الـذي صـارا أتابكاً لعلي بن المعز أيبك بعد الحلبي فلما تسلطن قطز أقره على نيابة السلطنة فلما وصل بيبرس البندقداري مع الجماعة الذين قتلوا قطز إلى الدهليز سألهم أقطاي المستعرب المذكور وقـال‏:‏ من قتله منكم فقال له بيبرس أنا‏.‏

قال له أقطاي‏:‏ يا خوند اجلس في مرتبة السلطنة‏.‏

فجلـس واستدعيـت العساكـر للتحليـف فحلفـوا له في اليوم الذي قتل فيه قطز وهو سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة‏.‏

واستقـر بيبـرس في السلطنة وتلقب بالملك القاهر ركن الدين بيبرس الصالحي ثم بعد ذلك غير لقبه عن الملك القاهر وتلقب بالملك الظاهر لأنه بلغه أن القاهر لقب غير مبارك ما تلقب به أحد فطالت مدته وكان الملك الظاهر المذكور قد سأل من قطز النيابة بحلب فلم يجبه إليها ليكون ما قدره الله تعالى ولما حلف الناس للملك الظاهر المذكور بالصالحية ساق في جماعة من أصحابه وسبق العسكر إلى قلعة الجبل ففتحت له ودخلها واستقرت قدمه في المملكة وكان قد زينت مصر والقاهرة لمقدم قطز فاستمرت الزينة لسلطنة بيبرس المذكور وكان مقتل قطز وسلطنة بيبرس في سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة‏.‏

  ذكر إعادة عمارة قلعة دمشق

وفي هذه السنة في العشر الأخير من ذي القعدة شرع الأمير علم الدين سنجر الحلبي نائب السلطنة بدمشق في عمارة قلعة دمشق وجمع لها الصناع وكبراء الدولة والناس وعملوا فيها حتى النساء أيضاً وكان عند الناس بذلك سرور عظيم‏.‏

ذكر سلطنة الحلبي بدمشق كـان علـم الديـن سنجـر الحلبـي وقد استنابه الملك المظفر قطز بدمشق على ما تقدم ذكره‏.‏

فلما جرى ما ذكرناه من قتل قطز وسلطنة الملك الظاهر جمع الحلبي الناس وحلفهم لنفسه بالسلطنة وذلـك فـي العشـر الأول من ذي الحجة من هذه السنة أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة فأجابه النـاس إلـى ذلـك وحلفـوا لـه ولـم يتأخـر عنـه أحـد ولقـب نفسـه الملـك المجاهد وخطب له بالسلطنة وضربت السكة باسمه وكاتب الملك المنصور صاحب حماة في ذلك فلم يجبه وقال صاحب حماة‏:‏ أنا مع من يملك الديار المصرية كائناً من كان‏.‏

ذكر قبض عسكر حلب على الملك السعيد ابن صاحب الموصل وعود التتر إلى الشام‏:‏ وكان الملـك السعيـد قـد قـرره قطـز بحلـب وجـرد معـه جماعـة مـن العزيزيـة والناصريـة وكـان رديء السيرة وقد أبغضه العسكر وبلغ الملك السعيد المذكور مسير التتر إلى البيرة فجرد إلى جهتهم جماعة قليلة من العسكر وقدم عليهم سابق الدين أمير مجلس الناصري فأشار عليه كبراء العزيزية والناصرية بأن هذا ما هو مصلحه وأن هؤلاء قليلون فيحصل الطمع بسببهم في البلاد فلم يلتفت إلى ذلك وأصر على مسيرهم فسار سابق الدين أمير المجلس بمن معه حتى قاربـوا البيرة فوقع عليهم التتر فهرب منهم ودخل البيرة بعد أن قتل غالب من كان معه فازداد غيظ الأمراء على الملك السعيد بسبب ذلك فاجتمعوا وقبضوا عليه ونهبوا وطاقه وكان قد برز إلى الباب المعروف بباب الله ولما استولوا على خزانته لم يجدوا فيها مالاً طائلاً فهددوه بالعذاب إن لم يقر لهم بماله فنبش من تحت أشجار حائط دار ببابلي جملة من المـال قيـل كانت خمسين ألف دينار مصرية ففرقت في الأمراء وحمل الملك السعيد المذكور إلى الشغر وبكـاس معتقـلاً ثـم لما اندفع العسكر من بين يدي التتر على ما سنذكره أفرجوا عنه ولما جرى ذلك اتفقت العزيزية والناصرية وقدموا عليهم الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي ثم سارت التتر إلى حلب فاندفع حسام الدين الجوكندار والعسكر الذين معه بين أيديهم إلى جهة حماة ووصل التتر إلى حلب في أواخر هذه السنة أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة وملكوها وأخرجوا أهلها إلى قرنبيا واسمها مقر الأنبياء فسماه العامة قرنبيا ولما اجتمع المسلمون بقرنبيا بذل التتر فيهم السيف فأفنوا غالبهم وسلم القليل منهم ووصل حسام الدين الجوكندار ومن معه إلى حماة فضيفهم الملك المنصور محمد صاحب حماة وهو مستشعر خائف من غدرهم ثم رحلوا من حماة إلـى حمـص فلمـا قـارب التتـر حمـاة خـرج منهـا الملـك المنصـور صاحبهـا وصحبته أخوه الملك الأفضل علي والأمير مبارز الدين باقي العسكر واجتمعـوا بحمـص مـع باقي العساكر إلى أن خرجت هذه السنة‏.‏

  ثم دخلت سنة تسع وخمسين وستمائة

وفي يوم الجمعة خامس المحرم عن هذه السنة كانت كسرة التتر على حمص وكان من حديثها أن التتر لما قدموا في آخر السنة الماضية إلى الشام اندفعت العزيزية والناصرية من بين أيديهم وكذلك الملك المنصور صاحب حماة ووصلوا إلى حمص واجتمع بهم الملك الأشرف صاحب حمص ووقع اتفاقهم على ملثقى التتر وسارت التتر إليهم والتقوا بظاهر حمص في نهار الجمعة المذكور وكان التتر أكثر من المسلمين بكثير ففتح الله تعالى على المسلمين بالنصر وولى التتر منهزمين وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون منهم كيف شاؤوا ووصل الملك المنصور إلى حماة بعد هذه الوقعة وانضم من سلم من التتـر إلـى باقـي جماعتهـم وكانـوا نازليـن قـرب سلميـة واجتمعوا ونزلوا على حماة وبها صاحبها الملك المنصور وأخوه الملك الأفضل والعسكر وأقام التتـر علـى حمـاة يومـاً واحـداً ثـم رحلـوا عن حماة وأراد الملك المنصور بعد رحيل التتر المسير إلى دمشق فمنعه العامة من ذلك حتى استوثقوا منه أنه يعود إليهم عن قريب فسافر هو وأخوه الملـك الأفضل في جماعة قليلة وبقي الطواشي مرشد في باقي العسكر بحماة ووصل المنصور بمن معه إلى دمشق وكذلك توجه الملك الأشرف صاحب حمص إلى دمشق وأما حسام الدين الجوكندار العزيزي فتوجه أيضاً بمن في صحبته ولم يدخل دمشق ونزل بالمرج ثم سار إلى مصر وأقام صاحب حماة وصاحب حمص بدمشق في دورهما والحاكم بهـا يومئـذ سنجـر الحلبـي الملقـب بالسلطان الملك المجاهد وقد اضطرب أمره‏.‏

ولذلك أقام صاحب حماة وصاحب حمص بدمشق ولم يدخلا في طاعته لضعفه وتلاشي أمره وأما التتر فساروا عن حماة إلى فامية وكان قد وصل إلى فامية سيف الدين الدنبلي الأشرفي ومعه جماعة فأقام بقلعة فامية وبقي يغير على التتر فرحلوا عن فامية وتوجهوا إلى الشرق‏.‏

ذكر القبض على سنجر الحلبي الملقب بالملك المجاهد وفي هذه السنة جهز الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر عسكراً مع علاء الدين البندقدار وهو أستاذ الملك الظاهر لقتال علم الدين سنجر الحلبي المستولي على دمشق فوصلوا إلى دمشق في ثالث عشر صفر من هذه السنة ولما وصل عسكر مصر إلى دمشق خرج إليهم الحلبي لقتالهم وكان صاحب حماة وصاحب حمص قيمين بدمشق لم يخرجا مع الحلبي لقتالهم ولا أطاعاه لاضطراب أمر الحلبي واقتتل معهم بظاهر دمشق في ثالث عشر صفر من هذه السنـة أعنـي سنـة تسـع خمسيـن وستمائة فولى الحلبي وأصحابه منهزمين ودخل إلى قلعة دمشق إلـى أن جنـه الليـل فهـرب مـن قلعـة دمشـق إلى جهة بعلبك فتبعه العسكر وقبضوا عليه وحمل إلى الديار المصرية فاعتقل ثم أطلق واستقرت دمشق في ملك الملك الظاهر بيبرس وأقيمت له الخطبة بها بغيرهـا مـن الشـام مثـل حمـاة وحلـب وحمـص وغيرهـا واستقـر أيدكيـن البندقـدار الصالحي في دمشق لتدبير أمورها ولما استقر الحال على ذلك رحل الملك المنصور صاحب حماة والأشرف صاحب حمص وعادا إلى بلادهما واستقر بها‏.‏

ذكر خروج البرلي عن طاعة الملك الظاهر بيبرس واستيلائه على حلب‏:‏ وفـي هـذه السنـة بعـد استقرار علاء الدين أيدكين البندقدار في دمشق ورد عليه مرسوم الملك الظاهـر بيبـرس بالقبـض علـى بهـاء الديـن بغـدي الأشرفي وعلى شمس الدين أقوش البرلي وغيرهما من العزيزية والناصرية وبقي علاء الدين أيدكين متوقعاً ذلك فتوجه بغـدي إلـى عـلاء الديـن أيدكين فحال دخوله عليه قبض على بغدي المذكور فاجتمعت العزيزية والناصرية إلى أقوش البرلي وخرجوا من دمشق ليلاً على حمية ونزلوا بالمرج وكان أقوش البرلي قد ولاّه المظفر قطز غزة والسواحل على ما قدمنا ذكره فلما جهز الملك الظاهر أستاذه البندقدار إلى قتال الحلبي أرسـل إلى البرلي وأمره أن ينضم إليه فسار البرلي مع البندقدار وأقام بدمشق فلما قبض على بغـدي خـرج البرلـي إلـى المـرج وأرسـل عـلاء الديـن أيدكين البندقدار إلى البرلي يطيب قلبه ويحلف له فلم يلتفت إلى ذلك وسار البرلي إلى حمص وطلب من صاحبها الأشرف موسى أن يوافقه علـى العصيـان فلم يجبه إلى ذلك ثم توجه إلى حماة وأرسل يقول للملك المنصور صاحب حماة أنـه لـم يبـق مـن البيـت الأيوبـي غيـرك وقـم لنصيـر معك ونملكك البلاد فلم يلتفت الملك المنصور إلى ذلك ورده رداً قبيحاً فاغتاظ البرلي ونزل على حمـاة وأحـرق زرع بيـدر العشـر وسـار إلـى شيزر ثم إلى جهة حلب وكان علاء الدين أيدكين البندقدار لما استقر بدمشق قـد جهـز عسكراً صحبة فخر الدين الحمصي للكشف عن البيرة فإن التتر كانوا قد نازلوها فلما قدم البرلي إلى حلب كان بها فخر الدين الحمصي المذكور فقال له البرلي نحن في طاعة الملك الظاهر فتمضي إلى السلطان وتسأله أن يتركني ومن في صحبتي مقيمين بهذا الطرف ونكون تحت طاعته من غير أن يكلفني وطء بساطه فسار الحمصي إلـى جهـة مصـر ليـؤدي هـذه الرسالة فلما سار عن حلب تمكن البرلي واحتاط على ما في حلب من الحواصل واستبد بالأمر وجمع العرب والتركمان واستعـد لقتـال عسكـر مصـر ولمـا توجـه فخـر الديـن الحمصـي لذلك التقى في الرمل جمال الدين المحمدي الصالحي متوجهاً بمن معه من عسكر مصر لقتال البرلـي وإمساكـه فأرسـل الحمصي عرف الملك الظاهر بما طلبه البرلي فأرسل الملك الظاهر ينكر علـى فخـر الديـن الحمصـي المذكـور ويأمـره بالإنضمـام إلى المحمدي والمسير إلى قتال البرلي فعاد من وقته ثم رضي الملك الظاهر عن علم الدين سنجر الحلبي وجهزه وراء المحمدي في جمع من العسكـر ثـم أردفـه بعـز الديـن الدمياطـي في جمع آخر وسار الجميع إلى جهة البرلي وساروا إلى حلب وطردوه عنها وانقضت السنة والأمر على ذلك‏.‏